الجمعة، 18 أبريل 2014

مانفيستو سينمائي بتوقيع/ سامي السلاموني






في عام1991 رحل الناقد السينمائي سامي السلاموني اثر ازمة قلبية تاركا ميراثا ضخما من المقالات والدراسات السينمائية وعدد من الأفلام التسجيلية التي انجزها خلال مشواره الممتد لاكثر من ربع قرن مع السينما. أصدر السلاموني في حياته ثلاثة كتب غير دورية و في عام 2003 قام المؤرخ السينمائي يعقوب وهبي بجمع مقالاته التي كتبها في نقد الفيلم المصري خلال عمله في مجلات الأذاعة والتليفزيون وفن اللبنانية ونشرة نادي سينما القاهرة حيث صدرت في اربعة اجزاء ضمت حوالي 336 مقال ضمن سلسلة آفاق السينما التابعة الهيئة العامة لقصور الثقافة.
هذا المقال هو استحضار لروح وفكر"ديوجين النقد السينمائي" في محاولة للأسترشاد بمصابيحه النقدية في الخروج من عتمة النفق المعتم الذي تعيشه السينما المصرية خلال المرحلة الحالية 



ان السينما علم قائم بذاته منفصلا عن علم السياسة والاخلاق، لان الفيلم ببساطة لا يمكن أن يتحدث عن السياسة والأخلاق إلا إذا تحدث أولا عن السينما، وللسينما لغتها وجمالياتها الخاصة التي يجيد اصحاب النوايا الشريرة استخدامها فلماذا يعجز عن ذلك أصحاب النوايا الطيبة!!
على سبيل المثال فعندما يتصدى كاتب لعمل ادبي فمهمة السينما الأساسية ساعتها هي"اعادة الرؤيا" وإثراء وتجميل وتكثيف هذا العمل، السينما فن وجمال بقدر ما هي فكر أيضا، ولا يمكن للرموز في السينما أن تقدم اجابات لأي اسئلة لأن الرمز يفقد قيمته في العمل الفني لو لم يكن قابلا للأسقاط على الواقع بمنطقية تامة تقنعا بتطابق الشخصية أو الحدث في مستواه الرمزي مع متسواه الواقعي بلا انفصال.
ان نجاح اي فيلم في الدنيا او فشله مرتبط بظروف انتاجه في وقت معين يسوده واقع اجتماعي وفكري معين وليس هناك اسباب سينمائية لنجاح الفيلم أو فشله، بمعني ان السينما وحدها ليست كافية لنجاح فيلم ما، فهناك لحظات من السعار الجماهيري تجعل الناس تقبل كالمجانين على هذا الفيلم أو ذاك مرتبطة باللحظة التي يعيشونها.
هذا فيما يخص النجاح ولكن فيما يخص المستوى فأي فيلم يكتسب قيمته الجمالية من القضية التي يثيرها بالنسبة لمجتمعه في لحظة تاريخية معينة ودون فصل قيمة هذه القضية عن الشكل والأسلوب الذي يطرحها الفيلم به، وعظيم جدا أن يحاول أي مخرج/فنان في العالم أن يبحث عن اسلوبه الخاص والمنفرد وأن يخرج عن الأساليب التقليدية المستهلكة السائدة حوله والفنان الذي لا يجرب لا يجدد ليس فنانا من الاصل ولكن يبقى السؤال :كيف ولماذا وإلى إين؟
لقد اصبحنا نستخدم تعبيرات مرتبطة بالوضع الراهن للسينما المصرية فالمسألة ليست مطلقة وإنما هي نسبية جدا، بمعنى أن ما هو جيد هو جيد في إطار السينما المصرية وان ما اصبحنا نعتبره جيدا الان كنا نرفضه منذ خمس سنوات أو عشر لأن مستوى افلامنا يهبط بأستمرار ولأننا اصبحنا محاصرين إلى حد الاجبار على المفاضلة بين ما هو متاح لنا فقط وليس ما نريده من السينما او ما نحلم به.
أن الميزة الاساسية في كل الأفلام القديمة التي مازال الناس يتذكرونها ويفضلونها على أفلام اليوم وعلى كل المستويات هي ميزة"جودة الصنعة"حيث كل شئ متقن وكل شئ مخدوم جيدا وكل ممثل في مكانه المناسب ويمكن أن تصدق كل ما يحدث أمامك أيا كانت سذاجته أو غرابته.
وإذا كان الجمهور متخلفا والسينما متخلفة فليس هذا مبررا لأن اتجاوز انا كسينمائي هذه الظروف كلها واحلق فوقها في الهواء لكي يلحق بي الناس ان استطاعوا فليست السينما عملية تعجيز او معركة بين الفيلم والمتفرج وإنما هي وظيفة اجتماعية يجب أن تلعب دورا لتطوير المجتمع ما استطاعت.
إن الإخراج ليس مجرد براعة تكنيكية ولكن الأخراج بالمعنى الفني يبدأ من لحظة اختيار الموضوع او القضية التي يريد المخرج ان يوظف مواهبه فيها أو يعبر عن رأيه..وعلى حسب قيمة هذا الموضوع او تلك القضية وأهميتها لدى الناس ومدى قربها أو بعدها عنهم تتوقف قيمة الفيلم كله وحتى قيمة تكنيك المخرج مهما كان بارعا.
وليس ضروريا بأي مقياس فني أو موضوعي أن اصنع فيلما كئيبا للتعبير عن مجتمع تعيس وإلا اصبحت هذه حرفية طفولية في التعبير، أن اصعب مهام الفن الجيد أن يستخلص أفكاره الأساسية الكبيرة من نسيج الواقع نفسه ودون أن يفرضها عليه حتى يصدقها الناس.
في السينما هناك ما يعرف بالقدرة المدهشة على التقاط جماليات البؤس نفسه وذلك عندما يتعامل معه الفنان بحب وبلا تعال أو قرف، والصورة والزواية وحركة الكاميرا  والضوء واللون والتشكيل هي شئ عبقري فعلا يجعلنا نرى غرف السطوح ومناور السلالم والأسواق والأرصفة بجمال مدهش كأننا نكتشفها لاول مرة، والذين يعترضون على البؤس هم غالبا مندوبوا وزارة السياحة الذين يريدون من كل فيلم أن يكون كارت بوستال نرسله للخارج ليضحك علينا، والذين يعترضون على شخصيات القاع يتجاهلون كل واقع من حولهم ليضحكوا على انفسهم وينسنون أنه من حق البعض ان يتحدث عن الصعاليك و الهوامش فهؤلاء لهم قصصهم أيضا.
ان ما يمكن أن ينجح لدى جمهور بلده أولا لانه يخاطبهم باحترام وبلغة راقية يمكن ان يفرض نجاحه على العالم الخارجي أيضا لان المسألة في الحالتين هي مسألة فن أو لا فن أولا وأخيرا ومسألة هل لديك جديد تقوله للناس وكيف تقوله وبأي لغة؟
أن اصعب مهام الفن نفسه ان يستخلص افكاره الأساسية الكبيرة من نسيج الواقع نفسه دون نا يفرضها عليه حتى يصدقها الناس، وأحيانا يكفي فيلم واحد لصنع فنان حقيقي، والفنان الحقيقي هو الذي لا يتجمد ولا يتكرر ولا يقف عند مرحلة او عند مستوى وإنما يبحث دائما عن بداية دائمة لتطوير جديد وإبداع مدهش لأنه يتجدد كما يتجدد العالم والواقع نفسه من حلوه كل يوم فلا يتوقف عن التجريب والمغامرة.
ان ركود السينما هو ظاهرة اجتماعية واقتصادية ونفسية- او بالتحديد مزاجية- مرتبطة بعوامل كثيرة شديدة التشابك والتعقيد ولكن ليست لها علاقة مباشرة بالتأكيد بجودة الأفلام او ردائتها وإلا خرجان من هذه الظاهرة بنتيجة مرعبة فضلا عن انها خاطئة وهي أن جمهور السينما المصرية يريد الأفلام الرديئة وينصرف عن عمد عن الأفلام"النظيفة"* او المحترمة وهذا ليس صحيحا على الاطلاق لان جمهورنا ليس عجبة بين جماهير سينما العالم وليس مريضا ولا شاذا وإلا فلماذا ينصرف احيانا عن الأفلام السخيفة وحتى عن الهيافات والميلودرامات الزاعقة التي يقبل عليها في أوقات أخرى بحماس! المسألة إذن ليست بجودة الأفلام ولا بردائتها وإنما هي ببساطة الظرف الأجتماعي والأقتصادي الذي يمر به المتفرج وهو موضوع اكبر وأعقد.
الصورة هي عنصر اساسي جدا في تكوين أي مخرج في العالم بل أنه العنصر الذي يجعله يصنع الأفلام كأفلام وليس كمقاولات أو برامج إذاعية ولكن اي صورة في العالم حتى اللوحة الثابتة لبيكاسو لابد وأن تقول شيئا وبلغة ما محددة والسينما الصورة كأتجاه مجرد من الموضوع القوي لا تصنع سوى"الواقعية الشكلية"حيث تحس أنك أمام مخرج يستخدم السينما الأستخدام الصحيح كلغة وحركة ولكنه يقول لك اشياء لا تفهمها احيانا او تفهمها ولكن لا تتعاطف معها لأنها ليست قريبة منك احيانا أخرى وغالبا ينقصها حرارة الواقع الذي تراه في شكل شوارع وبنايات، فالفكرة الامعة لا تكفي ولا حتى الأخراج المتمكن والفاهم وإنما مآساة السينما كلها هي السيناريو الذي يحول كل هذا إلى تفاصيل صغيرة ونسيج منطقي وصادق ومتدفق للواقع الحي الذي نعيشه ونعرفه كلنا ويبقى تحويله إلى فن، والتصور الصحيح لكن"المنقوص"ان السينما هي صورة اساسا هو مشكلة خطيرة تحول دون أن يصبح المخرج او صانع الفيلم مكتملا تماما.
ان الشكل لا يمكن لا يمكن أن يكون مطلوبا لذاته في السينما وفي ظروف السينما المصرية والجمهور المصري بالذات تصبح أي براعة شكلية مجرد ترف لا تحتمله السينما ولا هذا الجمهور أن لم يكن هناك شئ مفهوم وايجابي نقوله من خلال هذه البراعة.
ان مسؤلية النجم الوحيدة والأكيدة- في كل زمن سينمائي-هي أنه يمكن أن يستخدم ظاهرة الأقبال الخارفي على افلامه ليصنع انقلابا من نوع اخر اكثر فائدة للسينما وللجمهور معا فيستغل تأثيرة الكبير ليقلب مقاييس السوق وذوق الجمهور في اتجاه ايجابي، فيختار افضل القصص وكتاب السيناريو والمخرجين ليقدم أعظم الافلام، ولكنه لا يفعل، فالمذهل أن النجم الذي تذهب إليه كل السيناريوهات التي يكتبها كل كتاب السيناريو في مصر لا يقبل إلا اردأها غالبا وما يتفق فقط مع مزاجه هو الشخصي وما يريد هو نفسه أن يفعله على الشاشة.
هذا امر غريب بالفعل فكل نجم دائما ما يقول أنه مرتبط أولا بالجماهير العريضة ولا يريد أن يقدم شيئا متعاليا أو معقدا أو"معقربا"وهو صادق تماما فيما يقول إلا أنه في النهاية بعد كل هذه الاختيارات العديدة لا يمكن ان يكون ما يقدمه من أفلام هو ما تحتاجه"الجماهير العريضة"من فنانها الذي اقبلت عليه!
فالخيط الوحيد الذي يربط بين هذه الأفلام وبين الجماهير العريضة هو أن بعض كتاب السيناريو الشطار يفتعلون موقفا بطوليا عابرا او جملة حوار ساذجة يسخر فيها النجم من بعض المفسدين أو الأثرياء أو اللصوص الكبار وليس هكذا بالطبع تعالج القضايا الأجتماعية او اي قضية في العالم فليست المسألة مجرد إنتقام أو انتهازية سياسية وتملق مشاعر الجماهير من كتاب سيناريو"ترزية" قادرين على تفصيل ثوب سياسي أو اجتماعي لكل فيلم عسكر وحرامية عبيط.
صحيح أن الفنان هو موقف اجتماعي واضح وشجاع، ولكنه عمل فني ايضا وأولا، وإلا أصبح زعيما سياسيا وهذا لا يكفي، لأنه حتى دور الفنان السياسي أو الأجتماعي لا يكتمل إلا من خلال أعماله الفنية لأنها التي تصل وتقنع وتجذب وتؤثر في "الجماهير العريضة" أكثر.
وكلمة أخيرة :
إن الأفلام التي تحاول أن تقول كل شئ في وقت واحد تنتهي بأن لا تقول شيئا على الأطلاق في النهاية.
  

  • يتخذ مصطلح السينما النظيفة دلالة مغايرة عن الدلالة الآنية للمصطلح والتي تعني خلو الفيلم من المشاهد الجنسية والعري وما إلى ذلك ولكن كان استخدام الناقد الكبير للمصطلح من باب كون الفيلم ناضج ومحكم ومقتن ولا يحتوي على عناصر رديئة أو هزيلة أو فاسدة كالميلودرامات الفاقعة أو المواقف الهزلية أو الأحداث الرخيصة القائمة على الأبتذال وغياب المنطق الدرامي والبصري.

- تم أعداد هذا المانفيستو من واقع الأعمال الكاملة للناقد الراحل

السبت، 27 أبريل 2013

يمناسبة منع عرضه في لبنان : الفيلم اللبناني الهجوم



"الهجوم"
أزمة الأنحياز


اسم الفيلم: الهجوم
تأليف وإخراج: زياد الدويري
بطولة : علي سليمان-ريموند المسيليم
إنتاج: جون بريها – رشيد بو شارب
مدة الفيلم: 99 ق

توج فيلم"الهجوم"للمخرج زياد الدويري بجائزة النجمة الذهبية وهي الجائزة الكبرى للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش وذلك ضمن عروض المسابقة الرسمية(30 نوفمبر-8 ديسمبر) متفوقا بذلك على 14 فيلما هم حصيلة افلام المسابقة للدورة الثانية عشر والتي رأس لجنة تحكيمها المخرج البريطاني الكبير جون بورمان.
الفيلم يحمل اسم مصر إلى جانب لبنان وقطر وبلجيكا في خانة الدول المنتجة وذلك حسب ما ورد في كتالوج المهرجان وبهذا يمثل الفيلم المشاركة المصرية الوحيدة ضمن ال 80 فيلما المشاركة في فعاليات الدورة.
الهجوم ليس فيلما تقليديا عن القضية الفلسطينية او الصراع العربي الأسرائيلي انه فيلم عن ازمة الأنحياز وبناء الرأي, قبل التيترات نرى مشهد وداع البطل امين الجعفري لزوجته في كادر ضيق لا يظهر سواهم, انها تقول له أنه في كل مرة ترحل عنه او يرحل عنها يموت جزء من روحها, هذا الأرتباط الروحي سوف يكون جزء من معاناة البطل خلال رحلة بحثه عن الحقيقة وراء تورط زوجته في هجوم استشهادي على مطعم بتل ابيب.
خلال مشهد واحد فقط عقب التيترات يكثف لنا السيناريو شخصية أمين الجعفري كاملة, انه جراح اسرائيلي من اصل فلسطيني-عرب 48- يتم تكريمه في جمعية الجراحين الأسرائيلية ليكون اول شخص من اصول عربية يحصل على جائزة بن اليعازر في الجراحة, يتقدم امين ويلقي كلمة معبرة عن موقفه السياسي من اسرائيل الذي تغير نتيجة ما حققه من نجاح عبر الدارسة والعمل بها, انه يبنى موقفه مغلفا اياه بنظرة انسانية عندما يقول"لقد تغير شعوري عندما وجدت من هو في حكم العدو راقدا على منضدة الجراحة امامي" هذا التكثيف الدرامي يستتبعه تكثيف بصري عندما نشاهد سيارته الفاخرة وفيلته الأنيقة وبطاقة الهوية الأسرائيلية التي يحملها ويعرضها للجندي عند توقفه ليلا.
في الصباح نكتشف البعد الاجتماعي لعلاقاته في المجتمع الذي يعيش فيه(المستشفى), صديقه رجل الموساد الذي انقذ امين امه بعملية خطيرة, وزميلته التي تكن له مشاعر عاطفية واضحة وزميل اخر يبدو نموذج للعنصرية المقننة حيث يبدو مستكثرا على امين المركز المعنوي والمادي الذي وصل له(رغم كونه عربيا), في الخلفية تبدو تل ابيب مدينة فضائية شديدة الفخامة والرقي والتحضر وهي خلفية مقصودة للدلالة على كون هذا الجتمع براق وشديد الجاذبية من الخارج.
عندما يحدث الانفجار تبدأ نقطة الهجوم على المتلقي والشخصية الرئيسية في نفس الوقت, الانفجار حدث في مطعم واغلب الأصابات من الأطفال, هنا تبدأ ازمة الأنحياز في الظهور, الاطفال يبكون معذبين من اثر الجروح وبعضهم مات, يضعنا المخرج امام مأزق التعاطف الأنساني لزاوية السؤال الصعب, هل تقبل بقتل طفل ؟ وتصبح الاجابة من داخل المتلقي اليسوا هم ايضا قتلة اطفال!!
اختيار المخرج لفكرة موت الأطفال في التفجير الأستشهادي(الأرهابي في لغة الشخصيات الأسرائيلية) اختيار شديد القوة دراميا انه يتعمد توريط المتفرج في ازمة الأنحياز والمأزق الأنساني العام للصراع.
في البداية يرفض امين كل الأتهامات ويصر ان زوجته ماتت فقط في الأنفجار, ولكنه يرفض كونها هي الأستشهادية التي تسببت فيه,"انها مسيحية" يكرر ذلك كأنه يدافع عنها, وهو ايضا اختيار شديد القوة من صناع الفيلم, مسيحية تعيش في تل ابيب زوجة جراح ناجح وثري ما الذي يدفعها إذن لتفجير نفسها كي تستشهد؟!
المخرج زياد الدويري
يحاول المخرج الأستغراق في حيرة أمين النفسية عبر لقطات خاطفة للقائه بزوجته, في مشهد هام نراهم في بداية التعارف عبر الفلاش باك عاريين في الفراش, انها ذاكرته التي تستدعي هذا المشهد ليصبح دلالة على كونه كان يظن انها تعرت امامه, اي كشفت كل اسرارها وكشف لها كل اسراره, فيما بعد سيعلم حجم الأسرار التي كانت تخبئها, لقد انحازت واصبح لها قضيتها التي هي قضية سياسية في المقام الاول وليست قضية دينية أو اجتماعية.
هذا ما سوف يقوله له القس الذي سيقابله في نهاية رحلته في نابلس,"لسنا اسلاميين ولسنا مسيحيين متعصبين نحن اصحاب قضية", هذه القضية كانت غائبة تماما عن امين وعن امثاله من المستغرقين في حياتهم داخل المجتمع الأسرائيلي, الفيلم لا يجبر شخصيته على الأنحياز ولكنه يتابع معها ولنا كيف يتشكل هذا الأنحياز ليصبح ضرورة لا مفر منها.
تتخذ الكاميرا في لقطات كثيرة وجهة نظر الشخصية/امين انها فكرة الآية الشهيرة من انجيل يوحنا"لقد كنت اعمى والأن صرت مبصرا"ان اتخاذ الكاميرا وجهة نظر الشخصية اشبه بعملية متابعة التبصير الذي يحدث لها, في مشهد ساذج يعرض سائق التاكسي على امين أن يستمع إلى خطب الشيخ مروان احد دعاة الجهاد ضد اليهود/الأسرائيليين مما يدفع امين للذهاب كي يقابل الشيخ ظنا منه انه كان السبب وراء اقتناع زوجته بفكرة المهمة الأنتحارية.
هناك ينكر الشيخ كل صلة له بالزوجة /البطلة التي اصبحت صورها معلقة في كل مكان على حوائط نابلس, تزداد حيرة أمين لأنه يبحث عن سبب وقد ظن انه سوف يجده في الدين.
يدافع الفيلم هنا عن الأستشهاديين الذي يقال انهم يقومون بهذا من أجل الجنة, تذكرنا هذه التيمة الفكرية بفيلم هاني ابو اسعد"الجنة الأن", في جملة مؤثرة يسأل ضابط الموساد أمين اثناء التحقيق"الذين يقومون بعمليات انتحارية ينتظرون حور العين في الجنة ولكن زوجتك كأمراة ماذا تنتظر هناك؟" هذا السؤال يصبح جزء من الاجابة نفسها, انها تنتظر وطنا محررا, يرفض الفكر الصهيوني هذه الفكرة ويروج عبر مسمع اذاعي يستمع له امين بأن الأستشهاديات يعانين من مشاكل اجتماعية ونفسية, ويضربون مثلا بكون وفاء ادريس اول استشهادية فلسطينية كانت عاقر مطلقة.
لكن زوجة الطبيب لم تكن عاقر او مطلقة او دميمة او فقيرة, لا اسباب دينية او اجتماعية او نفسية وراء اقدامها على تفجير نفسها سوى الأنحياز للقضية.
من عينا امين نرى جندي اسرائيلي يتحرش على الحدود بشاب فلسطيني ويكاد يقتله, من عينا امين نرى جدار الفصل العازل, نرى نابلس التي تتناقض في مظهرها الفقير وفخامة تل ابيب وتحضرها الظاهري, هنا يصبح توحد الكاميرا مع عين الشخصية جزء من الشكل والمضمون على حد سواء.
لم يتورط الفيلم في ازمة بوليسية مفتعلة, ان ذروة الصراع النفسي لدى الشخصية ليست في التأكد من كون زوجته هي الأستشهادية ام لا ولكن لماذا فجرت نفسها! ولهذا ينتهي السيناريو سريعا من تلك التفصيلة عبر الخطاب الذي يصل للزوج من زوجته ويصبح سبب رحلته إلى نابلس كي يجيب على السؤال الأهم"لماذا؟".
الخطاب قادم من نابلس ليس من أجل التوضيح ولكن من اجل الأستدراج, هنا يتماس الخط السياسي العام بالخط النفسي والعاطفي الشعري, يتكامل هذا الخط بمشاهدة الزوج للفيديو الخاص بالعملية, وهو مختلف كل الأختلاف عن فيديوهات الأستشهاديين, فلا قراءة لأسباب الأستشهاد ولا القسم بالله ورسوله على التحرير ولا وعود باللقاء في الجنة, ولكن مجرد الوجه الأخر للمكالمة التي رأينها في بداية الفيلم والتي تلقاها الزوج قبل تكريمه بثوان.
ان الزوجة لا تضع نفسها كجزء من عملية المقاومة والتحرير ولكن كقربان شعري من أجل تغيير موقف الزوج, انها لم تعد ترضى عن عدم انحيازه, لم تعد ترضى بأن تراه منحازا للجانب الخطأ.
فكرة القربان او الفادي هي اقرب للعقيدة المسيحية التي تعتنقها الزوجة وبهذا يصبح لأستشهاد الزوجة دلالة عاطفية وسياسية في نفس الوقت ويصبح تغير موقف الزوج وبداية انحيازه مقنعا وهو ما نلمسه في حوار الانفعالي مع صديقته وزميلته الطبيبة الأسرائيلية التي كان التعاطف والمغازلة واضحا من جانبها في البداية, ويلخص السيناريو شعورها بتغير موقف امين من خلال انتقالها من الحديث بضمير المتكلم(أنا)العاطفي الشخصي إلى الحديث بضمير الجمع(نحن)السياسي, وتكتمل فكرة القربان العاطفي والأرتباط الروحي في المشهد الأخير عندما يذهب أمين إلى أخر مكان التقى فيه بزوجته لنسمعه يكرر نفس الكلمات التي القتها على مسامعه قبل رحليها (كلما سافرت بعيدا عنك مات جزءا من روحي).
يكسر الفيلم عددا من التابوهات التقليدية في افلام القضية, مثل سخريته من شخصية الأسرائيلي المتفهم المتحضر المحب للسلام الذي يتعاطف مع العربي"المسكين"على حسب تعبير أمين في حواره بالفيلم مع زميلته, وهي الشخصية النمطية في اغلب الافلام التي تحاول ان تتخذ موقفا انسانيا عاما كبديل عن الأنحياز السياسي الواضح ضد اسرائيل.
فيلم الهجوم يحتاج إلى مشاهدة متأنية دون مواقف مسبقة أنما ان يفتح المتلقي وجدانه ليتوحد مع شخصية أمين ويرى أذ ما كانت رحلته بالفعل سوف تثمر عن فهم الأسباب الحقيقة للانحياز في النهاية ام لا!